بعد إنتاج أكبر قدر ممكن من الخلايا التائية، ذات المستقبلات المختلفة، التي تستطيع أن تُكمّل أي مستقبل آخر على أية خلية أخرى، أو بالأحرى تتكامل مع أحجية من لغز جيغسو، يمكن للجسم أن يكوّن ما يفوق 10^15 (كوادريليون) خلية تائية مختلفة عن بعضها البعض، أي تحمل 10^15 مستقبلًا، وقادرة على التعرّف على 10^15 نوعًا من الخلايا الغازية. لقد صنع الجسم كل الاحتمالات لكل أنواع مستقبلات الخلايا الموجودة في العالم، بما في ذلك مستقبلات خلايا الجسم نفسه!
إذا تصورنا أن الخلايا التائية هي عناصر الشرطة التي تحمي المدينة من الأشرار الآتين من الخارج، فليس كل العناصر بنفس الولاء، هناك من التحق بالشرطة لينتقم من شخص ما يحمل ضده الضغائن من سكّان المدينة، ولذا لا بد من اختبار صارم لإقصاء هذه العناصر التي يمكن أن تثير الفوضى داخل الشوارع. يحدث اختبار التأهيل النهائي داخل الغدة الزعترية، ويعرف باسم «التحمل المناعي المركزي».
تُفرَز المستقبلات الموجودة على الخلايا التائية داخل الغدة الزعترية، يُسمح لعناصر الشرطة التي تحمل مستقبلات ضد خلايا الميكروبات الغازية بالتخرج للالتحاق بالخدمة، بينما يتم التخلص من العناصر التي تحمل مستقبلات ضد خلايا الجسم نفسه، وتُدمَّر قبل أن يسمح لها بالعمل. لعقود من الزمان اعتُقد أن التحمل المركزي المناعي هو العامل الوحيد الذي يحسم عمل الخلايا التائية، ويمنعها من مهاجمة الجسم الذاتية. لكن لا يبدو أنه كذلك!
كانت قدرة الجهاز المناعي على التخلص من الميكروبات الغازية دون التأثير على خلايا الجسم معجزة غير قابلة للتأويل، اكتفى العلماء وقتها بفرضية التحمل المناعي المركزي دون التطرق لأفكار أخرى. صحيح أنه برز في ثمانينيّات القرن المنصرم إلى جانب باحثي نظرية التحمل المناعي المركزي فريقٌ آخر من الباحثين رجّحوا وجود نوع آخر من الخلايا التائية، أسموه الخلايا التائية الكابحة T Suppressor Cells مسؤولة عن التعامل مع الخلايا التائية الهاربة مما لم يتسنَّ للغدة الزعترية التخلص منها. جرت التجارب، ووصلت إلى استنتاجات بعيدة المآل، إلا أن تواجد بعض الأخطاء في الأدلة المؤيدة لوجود الخلايا التائية الكابحة جعل العلماء —باستثناء واحد— يرفضون الفرضية بأكملها. هذا العالم قرر السباحة ضد التيار لعلّه يعثر على اللؤلؤة المفقودة في قاع المحيط، كان هذا العالم الياباني أحد الحاصلين على نوبل 2025، شيمون ساكاجوتشي.
عن حراس الأمن في نقاط التفتيش
آمن ساكاجوتشي أن اختبار التأهيل في الغدة الزعترية لا يكفي للحفاظ على الأمان في البلدة، وأن لا بد من حراس أمن —سمّاها العلماء من قبله الخلايا التائية الكابحة— تجوب الشوارع من أجل العثور على عناصر الشرطة التي هربت قبل الخضوع للاختبار، ومن أجل التأكد من وجود عناصر الأمن سنجري اختبارًا بسيطًا. سنلغي اختبار التأهيل ونسمح لكل الخلايا التائية بالمرور إلى الجسم، سواء حملت مستقبلات ضد الميكروب المُغير أم ضد خلايا الجسم نفسها، ثم سننظر: إذا تم القبض على العناصر الخائنة فنستدل على وجود عناصر أمن داخل الشوارع، وهذا ما فعله ساكاجوتشي وفريقه.
في فئران حديثة الولادة، أزال وفريقه الغدة الزعترية —مركز التدريب— من أجسامها، توقّع أن تكون المناعة أضعف عند هؤلاء الفئران فداخل الغدة الزعترية تنضج الخلايا التائية، قبل أن تقوم الغدة الزعترية بالتخلص من العناصر الخائنة منها، لكن ما حدث كان العكس تمامًا، إذ ركض الجهاز المناعي ككلبٍ مسعور لا يهابه شيء، وبدأ يهاجم كافة الجسم، متسببًا في عدة أمراض مناعية ذاتية في غضون عدة أيام فقط من بدء التجربة. في أمراض المناعة الذاتية يهاجم فيها الجسم نفسه، ويبدأ في تدمير خلاياه، معتقدًا أنها ميكروبات غازية.
للخلايا التائية عدة أنواع، الخلايا التائية المساعدة T helper تلعب دور الشخص الذي يصرخ عندما يرى لصًا ويتصل بالنجدة، فهي المسؤولة عن التعرف على الميكروبات المهاجمة للجسم، والإبلاغ عنها إلى الخلايا التائية القاتلة T Killer Cells التي تقوم بالتخلص من الميكروب المهاجم. بالطبع هناك أنواع أخرى من الخلايا المناعية، ومنها تلك التي اكتشفها فريق ساكاجوتشي.
في بداية الثمانينيات، قام العالم ساكاجوتشي وفريقه بعزل الخلايا التائية التي نضجت في فئران متطابقة جينيًا، وحقنها في الفئران التي جرى استئصال غدتها الزعترية، والنتيجة؟ بدأت أمراض المناعة الذاتية في الاختفاء عند تلك الفئران. ألهمت تلك التجربة، وأخرى مشابهة ساكاجوتشي وفريقه أنّه لا بد من نوع آخر من الخلايا التائية، يعمل كحارس أمن في نقاط تفتيش بالجسم، تحدّ من نشاط الخلايا التائية المهاجمة للميكروب، ليس فقط بالتخلص من الخلايا التائية المندسة التي حاولت النيل من خلايا الجسم، ولكن أيضًا إيقاف نشاط الخلايا التائية القاتلة فور القضاء على الميكروب لئلا يعيث تجمهر كل هذا العدد من عناصر الشرطة فسادًا.
بدأ ساكاجوتشي وفريقه البحث عن النوع الجديد من الخلايا التائية بنفس الطريقة التي تبحث بها الخلايا التائية عن الميكروب المهاجم: المستقبلات! الخلية التائية، كأي خلية في العالم، تملك فوق سطحها مستقبلات لتميّزها عن أي نوع آخر من الخلايا، امتلكت الخلايا التائية المساعدة على سطحها مستقبلًا عُرف باسم CD4، وتملك الخلايا التائية التي اكتشفها ساكاجوتشي، وعُرفت لاحقًا باسمها النهائي الخلايا التائية التنظيمية T Regulatory cells، نفس المستقبل على سطحها، وهذا ما عطّل اكتشافه لأكثر من عقد من الزمان من أجل التفريق بين النوعين، فاتضح أن الخلايا التائية التنظيمية تملك مستقبلًا آخر هو CD25. لكن رغم هذا لم يقتنع العلماء بوجود هذا النوع من الخلايا، أرادوا دليلًا أقوى، وهو ما قدمه لاحقًا العالِمان الآخران اللذان قاسما ساكاجوتشي الجائزة.
العثور على الإبرة في كومة قش الحمض النووي
في أغوار مختبر أوك ريدج، في تينيسي، عكف فريق من العلماء على دراسة الآثار المترتبة على الإشعاع، ضمن مشروع منهاتن لدراسة القنبلة الذرية. صادفَت مجموعةُ العلماء مجموعةً من الفئران الذكور التي وُلدت بجلدٍ متقشر، وطحال، وغدد ليمفاوية متضخمة، وعاشت فقط لبضعة أسابيع. في بداية التسعينيّات، ومع تطور الأدوات الجزيئية، عمّق العلماء البحث في أسباب مرض الفئران، وتوصلوا إلى أن أعضاء جسم الفئران هوجمت من قِبل الخلايا التائية، بمعنى أدق، أدت الطفرة التي سبّبها الإشعاع إلى تمردٍ في الجهاز المناعي، وولّدت مرض مناعة ذاتية، وعُرفت تلك الطفرة باسم «طفرة سكيرفي Scurfy Mutation».
نالت طفرة سكيرفي إعجاب عالمَينا اللذين حازا جائزة نوبل هذا العام، ماري برونكو وفريد رامسديل. دفعهم العمل في شركة تكنولوجيا حيوية تنتج علاجات لأمراض المناعة الذاتية في بوثيل إلى البحث في الأمر، حينها أدركا أن تلك الفئران مفتاح حل اللغز، فبدراسة متأنية يمكنهم معرفة سبب مرض الفئران، ومن ثمّ سبر أغوار أمراض المناعة الذاتية بأكملها. كانت بداية التسعينيات لا تزال مبكرة جدًا للبحث عن الجين المسبِّب للمرض، إذ لم تكن أدوات البحث المتاحة بنفس تقدّمية زمننا الحالي، لذا احتاج الأمر إلى المزيد من الوقت، الصبر، والإبداع في استخدام الأدوات المتاحة. بدا الأمر كالبحث عن إبرة في كومة كبيرة من القش، لكن علماءنا وجدوا الإبرة في النهاية.
كانت غاية ماري برونكو وفريد رامسديل بسيطة للغاية، لكن في رحلتهم تلك كشفوا ألغازًا لم يتوقعوا وجودها يومًا، فالجين المتسبب في مرض الفئران، والذي أطلقوا عليه اسم FOXP3، عثروا عليه أيضًا يسبب المرض ذاته لدى الإنسان، ومع وضع اكتشافاتهم جنبًا إلى جنب مع جهود علماء سابقين، اكتشفوا أن هذا الجين له تأثير على الخلايا التائية التنظيمية التي اكتشفها ساكاجوتشي، فأنهت هذه الكرزة كعكة ساكاجوتشي، وجاءت تأكيدًا لا ريب فيه على اكتشافه.
بعد عامين قاد ساكاجوتشي المسيرة مجددًا، وبمساعدة أبحاث زملائه الذين شاركوه نوبل، تمكّن من إثبات أن جين FOXP3 سيتحكم في تطوّر الخلايا التائية التنظيمية، التي تحمي الخلايا التائية الأخرى من مهاجمة الجسم أنسجته، فيما يُعرَف باسم «التحمّل المناعي المحيطي»، كما أنّها تتأكد من تهدئة نشاط الجهاز المناعي بعد القضاء على الميكروب المحتل.